من ديبلومَاسية دفتَر الشِّيكات إلى ديبلوماسية المُفَرْقَعات: السياسة الخارجية الجزائرية أسَاس العَطَب الإقليمي .
بقلم : البَرَّاق شادي عبد السلام
- سحب جواز السفر الديبلوماسي : ممارسة بومدينية
" الديمقراطية التي تحتاج إلى الدبابة لحمايتها هي ديمقراطية مريضة " قالها الكبير جدا على "أقزام الجزائر الجديدة" المجاهد عبد الحميد مهري أحد الرجال المحترمين في الثورة الجزائرية و أحد قيادات جبهة التحرير الجزائري التي تحظى بإحترام و تقدير كبير من الشعب الجزائري بسبب مواقفه التاريخية المناوئة و الرافضة للإنقلاب العسكري و السياسات الدموية التي تورط فيها جنرالات نظام العسكرتاري البومديني في مذابح العشرية السوداء الدموية ، هذه المواقف الوطنية الصادقة و الواضحة و العقلانية كلفته الكثير من التضييق و الإيذاء، بدءا بمؤامرة للإطاحة به من قيادة جبهة التحرير الجزائرية، تورط في التخطيط لها جنرالات العشرية السوداء البارزين كالجنرال محمد بتشين و الجنرال محمد العماري والجنرال محمد مدين المكنى بالتوفيق و الكولونيل سعيد عبادو بتنفيذ بئيس من طرف العديد من الوجوه المرفوضة شعبيا و تاريخيا في الجزائر كعمار بن عودة و عمار زقرار و محمد مجاهد و محمد عليوي وعبد القادر حجار وعبد الرحمان بلعياط وعلي صديقي و علي بن فليس و مولود حمروش و عبد العزيز بلخادم و علي كافي و عبد الرزاق بوحارة و رئيس البرلمان الجزائري الحالي صالح قوجيل؛ متاعب الراحل عبد الحميد المهري لن تنتهي بالإطاحة به و الإنقلاب عليه في يناير 1996 في "المؤامرة العلمية" نتيجة لمواقفه الرافضة لسياسات جنرالات الجيش في تدبير الصراع الدموي بسبب الإنقلاب على شرعية الصناديق الإنتخابية التي تسببت في دخول البلاد في متاهات مذابح العشرية السوداء الرهيبة بل ستأخذ أبعادا أخرى ..
قبلها بسنوات تم إستدعاء الرجل كوجه سياسي نظيف بتاريخ نضالي طهراني لقيادة الحزب الحاكم جبهة التحرير الجزائرية بعد الصدمة الكبرى التي تعرض لها النظام العسكرتاري في أحداث إنتفاضة أكتوبر 1988 و التي عرفت أحداث عنف و عملية قمع ممنهج من طرف الجيش و حرق مقرات الحزب الحاكم في مختلف ولايات و مدن الجزائر ،تعيين الرجل في منصب قائد حزب الدولة كان أحد القرارت التي إتخذها نظام الشاذلي بن جديد لإحتواء الوضع السياسي والإجتماعي في ما سمي بالديمقراطية التنفيسية و السعي لإجراء إصلاحات سياسية تفضي إلى تعددية سياسية و نقابية و حرية الصحافة.
بالعودة إلى قصة الحكيم عبد الحميد مهري في فقد تعرض لحملة تخوين كبرى و عملية قتل رمزي واسعة لرغبته في حقن دماء الجزائريين وإقتراحه و مشاركته في التفكير بحل سلمي و سياسي لوقف حمام دم العشرية السوداء حيث إبتعد بالحزب عن سياسات الدولة لتصل جرأته السياسية إلى رفضه إعلان دعم الحزب التاريخي في الجزائر لمرشح الجيش للرئاسة لیامین زروال حيث تم سحب جواز سفره الديبلوماسي من طرف وزير الخارجية الجزائري آنذاك و الحالي أحمد عطاف بأوامر من جنرالات الجيش كما صرح أحمد عطاف في لقاء صحفي بوقت لاحق .
مأساة الراحل عبد الحميد مهري لن تنتهي هنا فسيمنع مرة أخرى من جوازه سفره الديبلوماسي الذي هو حقه الدستوري بقانون لتاريخه السياسي و الديبلوماسي كوزير في الحكومة المؤقتة لثورة التحرير ثم كسفير سابق في باريس و الرباط و يمنع هو و زوجته المصابة بالسرطان من مغادرة التراب الجزائري حيث أن مصاريف العلاج الباهظة
إضطرته لبيع سيارته و قبول مساعات من أفراد بالجالية المغاربية في فرنسا ؛ لمكر التاريخ إنتهت حكاية الكبير عبد الحميد مهري بجنازة شعبية كبيرة بحضور جماهيري غفير و بمعايير رئاسية ينقصها البروتكول فقط و دفن في مقبرة مع عموم الشعب و هي السنة التي ماتت فيها الفنانة وردة رحمها الله ودفنت في مقبرة الشهداء بحضور رئاسي و كبار رجالات الدولة.
نفس الممارسة التي تعرض لها المرحوم عبد الحميد مهري، حين سحب منه جواز السفر الدبلوماسي من طرف وزير الخارجية أحمد عطاف ، تعرض لها المرحوم الأمين دباغين وزير خارجية الحكومة الجزائرية المؤقتة في خمسينات القرن الماضي الذي إشتكى في حياته من عدم تمكنه من جواز السفر الدبلوماسي في عهد بوتفليقة كوزير خارجية ، و في سنة 2023 التاريخ يعيد نفسه حيث تطالعنا الصحف و المواقع نقلا عن مصادر داخل النظام الجزائري بأن وزير الخارجية الجزائري السابق رمطان لعمامرة لم يتمكن من سحب جواز السفر الديبلوماسي الخاص به و ممنوع من مغادرة التراب الجزائري في ظل إقامة إجبارية لا تتجاوز الحدود و هي الممارسة العادية جدا في ظل نظام شمولي يبني شرعية حكمه على نظرية المؤامرة الخارجية و العدو الخارجي و يستمد منها أسباب إستمراره في حكم الشعب الجزائري و تبديد ثرواته في صفقات تسليح غبية بدل إستخدام أموال الشعب في تنزيل إستراتيجيات تنموية فاعلة .
النظام العسكرتاري الشمولي الجزائري اليوم يراهن على إستمرار عبد المجيد تبون لولاية ثانية ما بعد 2024 لذلك فالملاحظ إستمرار عمليات تكسير العظم الممنهجة داخل أجنحة النظام فسحب جواز السفر الديبلوماسي لرمطان لعمامرة يدخل في سياق التحضير لإنتخابات 2024 و إخلاء الساحة أمام مرشح وحيد للجنرالات هو عبد المجيد تبون بقدراته السياسية المتواضعة جدا.
- العقيدة الديبلوماسية الجزائرية : من التيه الإيديولوجي إلى التيه الجيوسياسي
لا يختلف إثنان على أن السياسة الخارجية الجزائرية تتعرض لإنتكاسات ديبلوماسية و سياسية متواترة و متتالية في جميع الدوائر التي تشتغل عليها نتيجة فقدان صانع القرار الديبلوماسي للرؤية المتبصرة و الواقعية التي تحدد مسارات تفاعلات السياسة الخارجية مع الملفات الإقليمية بسبب إرتهانها للرغبات النفسية ل "مقيم المرادية" و مشغليه من جنرالات النظام العسكرتاري المصابين بالذهان المرضي ( المغرب فوبيا ) ، حيث تصاعدت حدة صراع الأجنحة داخل النظام النيوباترمونيالي الجزائري خاصة بعد الرجة الكبرى التي تعرض لها نتيجة الحراك الشعبي و التغييرات التي إضطر النظام إجراءها مؤخرا على هيكل السلطة من خلال إنقلابات و تصفيات قطاعية في مختلف مستويات الجهاز البيروقراطي و العسكري للدولة هذا الصراع إنعكس على مؤسسة الخارجية و جهازها البيروقراطي حيث عرفت وزارة الخارجية تغيرات جوهرية بداية بتغيير الإسم من وزارة الخارجية إلى وزارة الشؤون الخارجية والجالية الوطنية بالخارج تم إنهاء مهام 16 مسؤولا في وزارة الخارجية الجزائرية لتكليفهم بوظائف أخرى .
وإلى جانب ذلك، وبموجب مراسيم رئاسية أخرى، تمّ تعيين عدد من المسؤولين الجدد في وزارة الشؤون الخارجية، قبل أن يأتي المستجد الحالي بإعفاء رمطان العمامرة من منصب وزير الخارجية و تطويع الأمين العام السابق للوزارة عمار بلاني كسفير في أنقرة و إستدعاء أحمد عطاف أحد وجوه العشرية السوداء و صاحب المواقف الكلاسيكية و النمطية في تدبير الملفات الخارجية للجزائر و التي تتماهي مع الرؤية العنيفة و التصادمية للجنرال السعيد شنقريحة و السلوك الإندفاعي للرئيس عبد المجيد تبون المفتقر للثبات الإنفعالي و الوقار المفترض في تصريحات و تصرفات رئيس دولة من حجم الجزائر.
الديبلوماسية الجزائرية ظلت لعقود و لازالت تفتقر للجانب المهني في إختيار السفراء و توزيع المهام الديبلوماسية فمختلف الشخصيات التي تولت مهام ديبلوماسية لتمثيل الجزائر هي شخصيات ذات فكر تقليدي ينهل من الفكر البومديني المتهالك فغالبا ما يتم إختيارها من قدماء المحاربين في الثورة الجزائرية أو الوزاراء المقالين على خلفية فضائح مالية أو إدارية أو شخصيات في هرم السلطة المغضوب عليها و المبعدة من العمل السياسي أو في إطار ترضيات حزبية أو بيروقراطية ، لكن النقطة الجامعة بين هؤلاء هي أن هذه البروفيلات تنقصها الخبرة و الحنكة الديبلوماسية و غير مثقفة ثقافة عصرية و متشبعة بروح فرنسية غارقة في النمطية و غير مدركة لدورها الديبلوماسي و لرسالتها السياسية ، هذا الوضع الذي أثر على الخط التحريري للدبلوماسية الجزائرية وجعلها تفتقد إلى الوضوح و الفهم الدقيق لمتطلبات المرحلة فالملاحظ أنها توجد في حالة من التيه الدبلوماسي بسبب الإرتجال والتسرع والخضوع للتجاذبات السياسية و العسكرية التي تتدخل في صياغة المواقف الدييبلوماسية للجزائر .
النظام الجزائري اليوم يحاول إعادة صياغة العقيدة الديبلوماسية الجزائرية بما يتناسب و خططه التوسعية البومدين…
Comments