تشهد منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إعادة صياغة شاملة لهيكلها الجيوسياسي، مدفوعة بتحركات استراتيجية تقودها الإدارة الأمريكية، التي تسعى إلى إعادة تعريف معادلة العلاقات الإقليمية عبر الدفع نحو توسيع دائرة التطبيع بين إسرائيل وعدد من الدول العربية والإسلامية. مع اقتراب تولي دونالد ترامب مهامه الرئاسية في نهاية الشهر المقبل تتصاعد جهود هذه الديناميكية السياسية التي تتسم بتكتيكات دبلوماسية مكثفة واجتماعات غير معلنة تُجرى خلف الأبواب المغلقة، مما يعكس تحالفات ناشئة تخضع لحسابات دقيقة تهدف إلى تحقيق مصالح مشتركة، ضمن إطار يُوازن بين موازين القوى الإقليمية والمصالح الوطنية للدول المعنية.
التقارير الأخيرة كشفت عن لقاءات دبلوماسية سرية بين وفود إسرائيلية ومسؤولين من دول مثل السعودية، موريتانيا، وليبيا. في الحالة السعودية، تشير تسريبات إلى اجتماع رفيع المستوى عُقد في العاصمة اليونانية أثينا، ركز على قضايا أمنية واستراتيجية حساسة تتعلق بمواجهة النفوذ الإيراني وتعزيز التعاون الدفاعي، مع مطالبة المملكة بضمانات أمنية أمريكية طويلة الأمد. أما في موريتانيا، فقد أكدت مصادر مطلعة على ترتيبات أمريكية شملت لقاءً على هامش منتدى دولي في داكار، ناقش إمكانية إعادة العلاقات المقطوعة مع إسرائيل، مقابل دعم اقتصادي موجه لتعزيز الاستقرار الداخلي. وفي ليبيا، تطرقت الاجتماعات التي استضافتها روما إلى محاور أمنية تتعلق بمكافحة الإرهاب واستثمار الموارد الطبيعية الليبية في شراكات اقتصادية محتملة.
هذه التحركات لا تنفصل عن إطار استراتيجي أوسع يتمحور حول ما يمكن وصفه بـ”الهندسة الجيوسياسية الجديدة”، حيث تُدير الإدارة الأمريكية عملية إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية عبر أدوات ناعمة وأخرى صلبة. واشنطن تدرك أن نجاح هذه الاستراتيجية يتطلب مواءمة المصالح الأمنية والاقتصادية للدول المستهدفة مع الاعتبارات الإقليمية الأوسع، مع الحرص على احتواء المعارضة الداخلية لهذه التوجهات عبر قنوات متعددة تشمل الإعلام والمجتمع المدني.
في هذا السياق، يظهر الدور المحوري لمراكز التفكير الاستراتيجي التي تقدم توصيات تدعم جهود التطبيع. فمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، في إحدى دراساته، أكد على ضرورة صياغة ترتيبات تطبيع تلبي احتياجات الأمن القومي السعودي وتعالج القضايا الإقليمية الحساسة كجزء من صفقة شاملة. من جهتها، أشارت مجموعة الأزمات الدولية إلى أهمية الضغط على موريتانيا، التي تعتمد بشكل كبير على الدعم الخارجي، لإعادة النظر في علاقاتها مع إسرائيل. أما مؤسسة راند، فقد ركزت على تقديم حوافز اقتصادية لليبيا لضمان قبولها كطرف فاعل في هذا التحول الإقليمي.
تسعى الإدارة الأمريكية إلى تحويل مسار التطبيع إلى أداة جيوسياسية تخدم بناء شبكة من التحالفات الإقليمية المتكاملة. الهدف الأساسي لا يقتصر على تطبيع العلاقات الثنائية، بل يمتد إلى تحقيق سلام إقليمي شامل قادر على مواجهة تحديات مشتركة مثل الإرهاب وتنامي النفوذ الإيراني، فضلاً عن تعزيز التكامل الاقتصادي والتكنولوجي بين الدول.
ورغم أن هذه الديناميكية تبدو واعدة من منظور استراتيجي، إلا أن التحديات السياسية والاجتماعية تظل قائمة، بما في ذلك العقبات المرتبطة بمدى تقبل الشعوب لهذه التحركات، وضرورة تحقيق توازن بين الانفتاح الإقليمي والاعتبارات السيادية للدول المستهدفة. نجاح هذه الجهود سيعتمد على قدرة الإدارة الأمريكية على تقديم رؤية شاملة تجمع بين المصالح الوطنية والتوازنات الإقليمية، مما يمهد الطريق لبنية جيوسياسية جديدة قد تُعيد تشكيل المنطقة لعقود قادمة، مع احتمالية تحول التطبيع إلى أداة مركزية لتحقيق سلام إقليمي مستدام.
فيصل مرجاني في حوار حصري مع واشنطن بوسط Washington post من خلال برنامج Washington talk show عبر منصة المعهد الأمريكي the capitol institute بمناسبة ذكرى الاتفاق الثلاثي المغربي الأمريكي الإسرائيلي.
Comments